التطرف الفكري العربي- إقصاء الآخر وتشويه الحداثة

المؤلف: د. رشيد بوطيب10.22.2025
التطرف الفكري العربي- إقصاء الآخر وتشويه الحداثة

إن أي تيار سياسي أو رؤية فكرية تنتهج الإقصاء، إنما تعكس ضربًا من ضروب التفكير المتطرف. إن هذا النموذج الفكري - الذي لطالما أخطأنا حين ربطناه بالإسلام، تبعًا لما رسخه المثقفون الغربيون والعرب - لا يمكن فهمه، كما يرى محمد أركون، إلا في سياق تعددي، ولا يجوز اعتباره نتيجة حتمية لتعاليم الدين الإسلامي، حتى لو لم نتمعّن في هذه التعاليم أو نعيد صياغتها بلغة معاصرة.

قراءات اختزالية

بل هو نمط من التفكير يعود إلى إخفاق المشروع التحديثي أو مشروع الدولة الوطنية في العالم العربي. ويقوم هذا النمط على استبعاد الآخر المختلف من دائرة الحقيقة ومن الحيز العام، وممارسة الوصاية عليه، وتهميش إرادته السياسية وثقافته، والانتقاص من قيمه وتقاليده الأصيلة.

وقد تجسد هذا النمط الإقصائي في التفكير بأشكال متنوعة، منها: ثنائية "الدولة ضد المجتمع" أو "النخبة ضد الشعب" أو "العلمانية ضد الإسلام"، وما شابه ذلك. وهو نمط يسبق ظهور الحركات المتطرفة بعقود، بل إنه مهد الطريق لصعود الإسلام السياسي.

وقد تناول الفيلسوف الأميركي مايكل والزر هذه الظاهرة في كتابه "مفارقة التحرر" (2015)، موضحًا كيف أدى فشل المشروع التحرري العلماني إلى إعادة إحياء المكبوت الديني، وليس فقط في السياق العربي. ومن هنا، يصبح الحديث عن يسار متطرف في الثقافة العربية المعاصرة أمرًا مشروعًا، وهو اليسار الذي ارتبط بجيل الدولة الوطنية والنخب التي أفرزتها وترعرعت في كنفها، ليؤول به الأمر في نهاية المطاف إلى الدفاع المستميت عن دول الممانعة أو دول الاستعمار الداخلي، وعن حداثة جوفاء خالية من بعدها السياسي والقانوني والحقوقي.

إن ما نغفل عنه في الغالب هو أن الإثم الذي ارتكبه هذا اليسار بحق الثقافة العربية لا يقتصر على شن حرب ضروس على كل ما هو إسلامي. وإنني أتعمد استخدام كلمة "حرب" هنا، لأنني على يقين بأن الثقافة الإسلامية، على غرار أي ثقافة أخرى، لا يمكن أن تنهض إلا من خلال النقد والنقد الذاتي، كما علمنا علال الفاسي، ولكنها لن تتقدم أو تتطور في ظل هيمنة العنف سواء من قبل اليساريون المتشددون أو اليمينيون المتعصبون.

إن جناية اليسار المتطرف على الثقافة العربية تتجلى أيضًا في القراءة التي قدمها ولا يزال يقدمها للحداثة الغربية. فكما كانت قراءته للتراث العربي الإسلامي قراءة متسرعة واختزالية وأيديولوجية، قد تنتهي أحيانًا إلى نوع من ازدراء الذات، فإن قراءته للحداثة الغربية وإنجازاتها الفكرية لا تقل اختزالًا، بل ولا تقل حدة وعنفًا.

أيديولوجيا استئصالية

ويمكننا أن نتبين ذلك من خلال مفهوم العلمانية الذي ساد الفكر العربي لعقود مديدة، والذي تحول إلى أيديولوجيا استئصالية تبرر هيمنة البعثيين على المجتمع. وحتى لو لم نتفق مع محمد عابد الجابري في دعوته إلى التخلي عن هذا المفهوم والاكتفاء بمفهومي الديمقراطية والعقلانية، فلا يسعنا إلا أن نتفهم هواجسه، خاصة بالنظر إلى الاستخدامات الأيديولوجية لهذا المفهوم في السياق العربي.

ومع ذلك، يبقى من الضروري تسليط الضوء على التعدد الغني للتجارب والرؤى الحديثة للعلمانية، كما ينبغي أن نفعل ذلك مع مفاهيم ورؤى وتجارب أخرى، مثل: الديمقراطية والتنوير والعقلانية. ويمكن تقديم مثال آخر يوضح بصورة جلية القراءة الاختزالية والانتقائية والمنقوصة للحداثة من جانب اليسار المتطرف، والذي يمكننا أن نميز داخله بين يسار قومي ويسار ستاليني ويسار ليبرالي، أو بالأحرى نيوليبرالي. يتمثل هذا المثال في تلك القراءة التي قدمها الفكر العربي، في صيغته القومية، للفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، أو للتيار الرومانسي المتمرد على التنوير، وخاصة لفيخته.

يذكر بسام طيبي في كتابه الشهير عن القومية العربية، وعن رائد الفكر القومي عربيًا ساطع الحصري، أنه لم يقرأ من فيخته إلا "خطابات إلى الأمة الألمانية". وبعبارة أخرى، فإنه اكتفى بفيخته القومي وفيخته التربية القومية، ولم يطلع أو لم يلتزم بالاطلاع على فيخته الكوسموبوليتي ذي النزعة الإنسانية العالمية.

طابور خامس

بل الأكثر من ذلك أن الحصري اكتفى، وهذا ما لم يقله بسام طيبي، بقراءة أيديولوجية للخطب، متغاضيًا عن القراءات الأخرى التي كانت ترى في التربية القومية لفيخته تربية على الإنسانية وليس دفاعًا عن القومية أو الشعب الألماني. ولا ضير من التذكير بأن كتاب "الخطب" لفيخته هو الذي حظي باهتمام حسن حنفي أيضًا، وستتردد تصوراته الرومانسية في مقدمته الساحرة لكتابه "مدخل إلى علم الاستغراب".

أما المثال الثالث الذي يمكننا تقديمه، فهو المثال الذي يعبر عنه بوضوح الشاعر والمفكر السوري أدونيس، وبعض من مريديه الصغار، والذي يربط في غلوه اليساري بين العنف والإرهاب وكل ما يعانيه العالم العربي والإسلامي اليوم بفكرة التوحيد. وهو موقف نلتقي به بصيغة أقل كاريكاتورية عند عالم المصريات يان آسمان في تحليله لسفر الخروج وصورة الإله الغيور في "العهد القديم"، أو الفيلسوف الألماني أودو ماركواردت في نقده للأديان التوحيدية.

إلا أنه مع أدونيس يظل موقفًا سطحيًا يعالج الأعراض ولا يلتفت إلى الأسباب الجذرية، ولا يقول شيئًا عن سياق التخلف والاستبداد، ولا يتطرق إلى الدكتاتوريات العربية التي ظلت تحارب كل مظاهر "الانقسام الاجتماعي" كما يسميها لوفور، أو كل مظاهر التعددية، والتي ليست وقفًا على الحداثة الغربية في صيغتها الديمقراطية، بل لطالما ميزت الثقافات والمجتمعات الإسلامية، ليس في أزهى عصورها فحسب، بل حتى في لحظات انحدارها.

ويكفي هنا أن نقارن بين القراءة التي يقدمها محمد عزيز لحبابي لمفهوم التوحيد في "الشخصانية الإسلامية"، والذي يراه تحقيقًا للمسلم كإنسان فرد وحر، كشخص وليس كعبد، وبين تصور أدونيس الذي يتماهى في اللاوعي مع أكثر القراءات رجعية وانغلاقًا.

إن تطرف الأفكار منظومة فكرية شمولية متسلطة ومنغلقة، تهيمن على اليسار واليمين، الليبرالي والقومي والإسلاموي على حد سواء، وتعبر عن نفسها في الخطابات السياسية والأدبيات الفكرية وبرامج الأحزاب والكتب المدرسية. بل إنها تتجلى في العلاقات الاجتماعية والمؤسسات التربوية، من أسرة ومدرسة وجامعة. ولا يمكن إرساء ثقافة عربية تصالحنا مع ذواتنا وتاريخنا ومع العالم، دون تفكيك هذه المنظومة الشمولية، وهو ما لن يتحقق ما لم نحرر الثقافة العربية من سدنتها ووسطائها الذين ما فتئوا يتعاملون معها بمنطق الغنيمة أو في أجواء حزبية ضيقة وروح غير نقدية.

وختامًا، فإن تحرير الثقافة العربية لن يتحقق في ظل الاستبداد، بل يبدأ حين نشرع في تحريرها من هذا الاستبداد. وهنا قد تلعب المنافي الغربية دورًا بارزًا، على الرغم من أن براثن الاستبداد العربي ستطارد المثقفين الأحرار حتى في تلك المنافي، بل ولن تتوانى عن التحالف مع الإسلاموفوبيا ودعمها ضدهم وضد أي حضور نوعي للمسلمين في أوروبا، يساعدها في ذلك طابور خامس يتحدث باسم العروبة، بات القاصي والداني على بينة من دوره الهدام ومسعاه التخريبي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة